في عالم السياسة، تبقى بعض القصص محاطة بالضباب، لا تتكشف تفاصيلها إلا مع مرور الزمن، وعلاقة جمال عبد الناصر بإسرائيل كانت واحدة من أكثر هذه القصص إثارة للجدل والغموض. تسجيل صوتي مسرب نُشر مؤخراً للقاء جمع عبد الناصر بالرئيس الليبي معمر القذافي، جاء كطلقة مدوية أضاءت جانباً خفياً من شخصية الزعيم المصري الذي تحدث بلهجة براجماتية لافتة، قائلا: "اللي عايز يحارب إسرائيل يتفضل يحارب، وأنا مستعد أديكم 50 مليون جنيه معونة عشان تحاربوا وحلوا عننا.. أي مساعدات احنا مستعدين ما عدا الناس.. الناس مش مستعد".
البداية من حرب فلسطين!
لكن المدهش أن هذا التحول البراجماتي لدى عبد الناصر لم يكن وليد لحظة الانكسار بعد نكسة 67، بل كان ضاربًا بجذوره في أعماق تجربته الأولى في حرب فلسطين عام 1948. فالشاب الذي ذهب إلى القتال حاملاً بندقيته، عبّر في مذكراته التي كتبها بخط يده، عن مشاعر مختلطة من قلب ميدان المعركة حيال الحرب قائلاً: "وأحسست من قلبي أني أكره الحرب، وأحسست أن الإنسانية لا تستحق شرف الحياة إذا لم تعمل بقلبها من أجل السلام"!.
إحدى أكثر اللحظات إثارة في سيرة عبد الناصر خلال حرب 1948 حدثت أثناء حصار الفالوجة، عندما اجتمع ضباط مصريون وإسرائيليون حول مائدة واحدة لتناول الغداء معاً، في مشهد يختزل عبثية الحرب، وكان من بين هؤلاء الضباط إسحق رابين، الذي سيصبح لاحقاً رئيس وزراء إسرائيل. عبد الناصر وثق هذا اللقاء في مذكراته التي جمعتها لاحقًا ابنته هدى دون أن يذكر اسم رابين، مكتفياً بالإشارة إلى "القائد اليهودي الذي استقبلهم بشكل جيد".
في فيلم وثائقي بعنوان “شالوم رابين”، أكدت الوثائق الإسرائيلية وشهادات المؤرخين أن اللقاء كان حقيقياً، مشيرين إلى أن قائد المنظمة اليهودية السرية حينها، إيغال ألون، نصح ضباطه بضرورة الحفاظ على التواصل مع عبد الناصر.
إسرائيل: عبد الناصر شخصية معتدلة قابلة للتفاهم!
لاحقاً، مع تولي عبد الناصر السلطة، أدركت أجهزة الاستخبارات الغربية أن الزعيم الجديد في مصر قد يكون مفتاحاً لتسوية كبرى في الشرق الأوسط. تقارير المخابرات الأمريكية والبريطانية رأت في عبد الناصر شخصية "معتدلة" مقارنة بغيره، ورأى بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، أن هناك فرصة سانحة لتحقيق السلام مع مصر. استند في تفاؤله إلى هذا اللقاء مع عبد الناصر أيام الحرب.
ولم تظل الأمور رهينة التحليلات، فقد دخلت الاتصالات السرية حيز التنفيذ عبر قنوات متشعبة، حملت رسائل من أطراف غربية ويهودية مؤثرة، وحتى ألبرت أينشتاين نفسه حاول التوسط بين القاهرة وتل أبيب عبر قنوات خلفية بحسب رواية محمد حسنين هيكل في كتابه "القنوات السرية". غير أن عبد الناصر رفض الفكرة.
لكن بحسب المؤرخ الفلسطيني سعيد أبو الريش، شكل عبد الناصر في عام 1953 فريقًا سريًا لاستكشاف فرص الوصول إلى اتفاق مع إسرائيل، وهو ما دعمه لاحقًا رئيس الموساد مائير عميت في مذكراته "وجها لوجه"، مؤكدًا مشاركة عملاء من الموساد في تلك المفاوضات السرية بباريس بين عامي 1952 و1955.
وثائق إسرائيلية رفعت عنها السرية لاحقاً، كشفت أن الرئيس عبد الناصر بعث برسالة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي موشيه شاريت عبر وسيط في باريس، يعرض فيها رغبته في "حل سلمي" للمشكلة. لكن "العملية سوزانا"، التي قامت فيها شبكة تخريبية إسرائيلية بأعمال إرهابية داخل مصر، لتخريب انسحاب بريطانيا من قناة السويس، فجرت كل شيء. ومع إعدام المتورطين، انهارت خطوط الاتصال، ومهدت الطريق لانفجار مواجهات دموية، بلغت ذروتها بالعدوان الثلاثي واحتلال إسرائيل لسيناء.
سلام ما بعد النكسة
مرت السنوات، وجاءت نكسة يونيو 1967 لتقلب كل الحسابات، إذ أدرك عبد الناصر أن مشروع تحرير فلسطين من البحر إلى النهر أصبح أبعد منالا، وبدأ تغيير الخطاب السياسي المصري بشكل لافت، مبديًا استعداده لقبول إنهاء الحرب مع إسرائيل حال استعادة الأراضي المصرية، متحدثًا عن "إزالة آثار العدوان" بدلاً من القضاء على إسرائيل تماما، وانخرط عبد الناصر في مفاوضات الأمم المتحدة بحثاً عن مخرج سياسي، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون أن يغامر مجدداً بدماء شعبه.
ذروة هذا التحول السياسي كانت في يوليو 1970 عندما قبل عبد الناصر بما سمي "خطة روجرز"، التي صاغها وزير الخارجية الأمريكي حينها وليام روجرز، في محاولة لتحقيق تسوية سلمية جزئية بين العرب وإسرائيل، ولم يكن ذلك استسلامًا كما حاول البعض تصويره، بل كان امتدادًا طبيعيًا لتطور رؤيته الواقعية: لا مجال بعد اليوم لحروب عبثية تُهدر فيها الأرواح بلا طائل.
هكذا تبدو علاقة عبد الناصر بإسرائيل قصة أكثر تعقيدًا مما تختزله الروايات التقليدية: علاقة بدأت على مائدة غداء في قلب معركة، ونضجت تحت أهوال الحروب، قبل أن تنتهي بتسجيل صوتي يكشف عن زعيم أدرك أن كرامة الشعوب لا تُحفظ بالهتافات، بل تُصان بخطاب سياسي يسعى إلى السلام لا إلى الحرب.

..فعلا ..اتضح الآن على العموم أن الميليشيات و الانظنة التي اختارت عبثية الحرب ،اعتندت فكر شخص فكاهي مضطرب نفسيا ، القذافي 😂 الذي اعتبر في حواره مع ناصر لن الأمر مسألة وجود ، فليبقى نحن أو هم
ردحذف